لماذا أعرضَ الشيخ أحمد بامبا -رضي الله عنه- عن الجَدل العَقيم.

0
413

بقلم / شعيبُ بن حامد لوح.

مُنيت الأمة الإسلامية باختلاف باكر حدث عَقب وفاة رسول الله ﷺ وقبل إيداع جُثمانه المبارك الثَّرى، وذلك في قضية الإمامة التي يقول فيها الشَّهرستاني كلمته الشهيرة: “وأعظمُ خلافٍ بين الأمّة خلافُها على الإمامة [أي على السلطة السياسية] إذْ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان”. وقد أشعر هذا الاختلاف الواقع في خير القرون بمضيِّ سنة الله في عباده المقتضية باستحالة جمع الناس على رأي مُوحَّد، وبالتالي الاستبعاد عن محاولة فرض مذهب أو معتقد يكون الخارج عنه كالخارج عن حظيرة الإسلام.
ولحسن الحظ فمع تعدُّد مسائل الخلاف بين الأمة إلا أنها لا تعدو تلك التي للاجتهاد فيها نصيب وللرأي المعتبر فيها حظّ، ولا يوصف المخالف فيها بأوصاف الشرك والكفر والنفاق، وهي بجانب المسائل الثابتة التي نحسن الظن بالمتَّصف بها أنه مسلم صحيح الإيمان ولا نبحث عمَّا وراء ذلك؛ لأن علم السرائر عند مَن لا يخفى عليه شيء في العوالم.
وقد أساء كثير من الناس فهم هذا الخلاف بحقيقته، وغياب الفهم الصحيح أدَّى إلى حِكر الحق على طائفة معينة، وإقصاء المخالف من دائرة المؤمنين أحيانا أو تفسيقه وتبديعه تارة أخرى، غافلين عن الجامع والوصف الأعلى الذي يجمع بين المؤمنين أكتَعهم.
ولم يزل يظهر من هذه الأمة مَن يُشمر ساعد الجد، ويولي العناية بالتذكير بالرابط الجوهري الجامع بين كل الناطقين بالشهادتيْن، ومن هؤلاء مولانا المجدد الشيخ أحمد بامبا -رضي الله عنه- مؤسس الطريقة المريدية في السنغال الذي وجد هذا الخلاف قد أضعف الأمة ومزَّق صفوفها ونَخر فيها وأوصلها إلى حالة لا يُرثى لها. ومن إصلاحات هذا المجدد أن نظر إلى الأمة الإسلامية كأمة واحدة يجمعها روابط وأواصر أخوية لا يخرمها اختلاف في مسألة من المسائل الاجتهادية، كما أنه اتخذ منهجا يتحدَّد في الإعراض عن الكلام في المسائل التي تعدَّدت فيها الآراء، وتنوّعت فيها الأقوال خصوصا إذا كان من نوع الخلاف الذي نُعت باللفظي عند أهل الاختصاص.
وقد ارتأى شيخنا أن يركز الاهتمام بالتذكير بوشائج الأخوة التي لا ينبغي أن يشينها عدم الموافقة، وقال في وصية: “مَن اتَّخذَ إنَّ وإنما فلا يُعادي مسلما: {إن الشيطانَ لكم عدوٌّ فاتَّخِذوهُ عدوا} {إنما المُؤمنون إخوةٌ فأصلحُوا بينَ أخَوَيْكم}”، وقوله:
فلا تُعادوا مَن رأيتُم فاهُ = يُخرج لا إله إلا الله
أي: تنتفي العداوة وتزول البغضاء وينمحي الحقد من القلب بمجرد رؤية الشخص يتفوَّه ويلفظ كلمة الشهادة.
وكما وجد أيضا بعضهم يأخذ الطرق الصوفية ذريعة لبثِّ الشقاق وزرع التفرق بين المُنتمين إليها؛ فرأى أن ينأى بنفسه عن ذلك بتذكيره المُنتمين إلى الطرق الصوفية بأن لكل من أصحابها نصيب من الصواب، وعليه، فلا يجدر بأحد أن ينكر أو يسخر أخاه لأنه يخالفه في الانتماء، وقال:
فكلُّ وِردٍ يُوردُ المُريدا = لحَضْرَة الله ولن يَحِيدا
سواءٌ انتمى إلى الجِيلاني = أو انتَمى لأحمد التِّيجاني
أو لسِواهُما من الأقطابِ = إذ كلُّهم قطعًا على الصَّواب
فكلُّهم يَدعُو المُريدينَ إلى = طاعة ربِّ العرش حيثما جَلاَ
بالاِستقامَةِ، فلا تسخَرْ أحدْ = منهم ولا تُنكر عليهم أبد
ولعل ذلك أيضا ما جعل شيخنا يُكرّس جهوده على التأليف في قواعد ثُلاثية (الإيمان- الإسلام- الإحسان) غير خائض في المسائل الخلافية، مثل باب الأسماء والصفات، بل إنه يقتصر في التي يراها محل اجتماع بين أغلب الفرق الإسلامية من الأشعرية والأثرية، وكذلك في باب العمل ما يتقارب فيها المذاهب الأربعة، ناهيا المُسلمينَ عن الوقوع في الجدال العقيم الذي لا يُثمر عملا، وقال في كتابه تزَوُّد الشُّبان:
يا أيُّها الشُّبانُ إن خفتُم خجَلْ = فقدموا تعلمًا على عمَل
فقدموا العقائدَ السُّنيَّةْ = مُجرداتٍ عن فِرًى ومِريةْ
وكما قال أيضا:
أبَشِّرُ خيرَ الخلقِ بالخطِّ خِدمةً = بعَقدٍ وفقهٍ بالتَّصوُّفِ لا الجَدَلْ
أي فإن الأولوية عنده البحث عن الأرضية المشتركة بين جميع المؤمنين ونبذ غير ذلك عرض الحائط، وعدم الخوض في الجدل والمراء اللذيْن أضاعا عمر كثير من المُسلمينَ، ولم يُثمرا شيئا ملموسا في أرض الواقع مما هو عائد بالنفع إلى الإسلام، فالإسلام كما يقول الشيخ إبراهيم المالي “دينُ إيمان وعمَل، وليس دين إيمان وجدل”، علما بأن الجدل المذموم هو ما لا ينبني عليه عمل.
فهذا الخلاف الطويل بين سنة وشيعة وبين أثرية وأشعرية وصوفية وسلفية وبين مذهب وآخر… قد جنى على المُسلمينَ جناية كُبرى، من الصعب بمكان تداركها، وإذا انضاف إلى هذا سوء إدارة الخلاف لازداد الطين بلةً. في حين أننا لو جرَّبنا وركزنا على القاسم المشترك لكان ذلك خيرا لنا في مَعاشنا ومَعادنا.
مُستهل جُمادى الآخرة 1445 هجرية.
دِيسمبر 2023 ميلادية.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici